كشف شبهات المجادلين
عن
أنصار وعساكر القوانين
    لقراءة هذه الرسالة على مهل، إقطع الإتصال بالشبكة وذلك لعدم الحاجة إلى أن تبقى على اتصال

 
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين...
وبعد:ـ
فهذه شبهات طالما سمعناها تتردد على ألسنة كثير من المجادلين عن جُند الطواغيت وعساكر القوانين حتى بلغ الأمر أن تلقفها منهم أولئك العساكر المشركين الذين لا يعرفون من الدين إلا الإسم ولا من معالمه إلا الرسم وصاروا يجادلون بها الموحّدين ويُمارون بها المسلمين لتسوية شركهم وباطلهم ونصرتهم للطاغوت الذي أمر الله أول ما أمرهم أن يجتنبوه ويكفروا به قال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال سبحانه: {يُريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به} فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فبدلاً من أن يكفروا به ............. حرسوه وحموه ودافعوا عنه وجادلوا فيه وصاروا له جنداً محضرين وحراساً مخلصين ضحوا من أجله بمهجهم وبذلوا في سبيله أوقاتهم وأعمارهم..
وعندما كنا ندعو كثيراً منهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد كانوا يجادلون بشبه أوحاها إليهم شياطين الجن والإنس لبسوا بها الحق بالباطل والنور بالظلام قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيٍّ شياطين الإنس والجن يُوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربّك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يُؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوه ما هم مقترفون}. فبيّن الله سبحانه أنّ أفئدة الذين لا يُؤمنون بالآخرة هي التي تصغي لمثل ذلك الزخرف وهي التي ترتضي تلك الشبهات ليرقّعوا باطلهم ويستروا بها شركياتهم وليقترفوا ما هم مقترفون وقال سبحانه في آية أخرى {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين} فبيّن الله سبحانه أنّ في صفوف المسلمين من قد يستمع لتخذيل المنافقين ولشبهات المرجفين... لأجل ذلك كلّه أحببنا أن نردّ في هذه الورقات على أشهر شبهاتهم باختصار يُناسب المحل والمكان والزمان بحيث يكون صالحاً لأن يُطالعه العساكر أنفسهم وكذلك المجادلين عنهم وغيرهم من المتأثرين بتلكم الشبهات والتي حقيقتها كما يقول الشاعر:
شبه تهافت كالزجاج تخالها  حقاً وكلٌّ كاسرٌ مكســـور
 
عسى الله عز وجل أن يفتح بهذه الورقات آذاناً صماً وأعيناً عمياً وقلوباً غلفاً إنه ولي ذلك والقادر عليه... وهو مولانا نعم المولى ونعم النصير، وقد ناقشنا في هذه الورقات أشهر شبهاتهم وهي:ـ
 
  عدم كفر الحكام كفراً أكبراً بل كفر دون كفر
  أنهم يقولون لا إله إلا الله
  أنهم يُصَلُّون
  من كفّر مسلماً فقد كفر
   العذر بالجهل
  الإكراه والاستضعاف والرزق والمصلحة
 
الشبهة الأولى
عدم كفر الحكام كفراً أكبر بل كفر دون كفر
   قال المجادلون عن عساكر القوانين: نحن نخالفكم في الأصل الذي تبنون عليه تكفير أنصار هؤلاء الحكام من مخابرات وعساكر وغيرهم إذ كفر هذه الحكومات عندنا كفر دون كفر كما قال ابن عباس (ض)، وبالتالي فكل فرع تبنونه على تكفير الحكام كفراً أكبراً لا يستقيم عندنا
 فنقول: ليس من مسألة إلاّ وللناس فيها خلاف لكن لا يعني ذلك تمييعها وعدم معرفة الحق فيها، إذ ليس كل خلاف معتبر والحق واحد لا يتعدد قال تعالى:{فماذا بعد الحق إلا الضلال} وقال سبحانه: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} ولذلك قالالعلماء أن اختلاف التنوع محتمل لأنه اختلاف في الفروع ناتج عن اختلاف في تصحيح حديث أو تضعيفه أو بسبب عدم بلوغه للفقيه ونحو ذلك، أما اختلاف التضاد خصوصاً في أهم المهمات في الدين كالشرك والتوحيد والإيمان والكفر فلا يجوز ولا يحل لأحد أن يرضى به أو يقره أو يتخذه ذريعة وعذراً لموالاة المرتدين وأهل الإشراك أو نصرتهم أو مودّتهم... بل لابد من البت في هذه المسائل والوصول إلى الحق فيها لأن الله جل ذكره لم يتركنا هملاً ولا خلقنا عبثاً سبحانه {أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} وهو سبحانه لم يفرط في الكتاب من شيء قال تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فليس من خير إلا ودلنا الله عليه ورغبنا فيه، وليس من شر إلا ونبّه الله عليه وحذّر منه{ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة}...
  وهذا الأمر ـ أعني كفر هؤلاء الحكام الطواغيت ـ هو عند من فقه دينه وعرف توحيده أوضح من الشمس في رابعة النهار ولكن ليس من عجب أن يتشوش ضوء الشمس على من في عينيه رمد. ومرادنا هنا إن شاء الله تعالى معالجة ذلك الرمد وإزالة ذلك التشويش بمراهم التوحيد وبإثمد من أدلة الوحيين (الكتاب والسنة) فنقول: إعلم أولاً أن هؤلاء الطواغيت لا يكفرون من باب واحد حتى يرد تكفيرهم بمثل هذه الشبهة المتهافتة ...المبنية على القول المنسوب لإبن عباس (ض) "كفر دون كفر" بل هم يكفرون من أبواب عديدة شتى
 
 منها: أن لشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) ركنان أصليان لا يغني أحدهما عن الآخر بل لا بد لقبول هذه الشهادة وصحتها الإتيان بهما جميعاً هما: النفي (لا إله) والإثبات (إلا الله) أو كما بيّن ذلك الله تعالى ( الكفر بالطاغوت) و(الإيمان بالله) {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} فمن لم يجمع بين هذين الركنين فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو هالك مع الهالكين، لأنه ليس من جملة الموحدين بل هو في عداد المشركين أو الكافرين
 
فهؤلاء الحكام لو صدّقنا زعمهم بأنهم مؤمنون بالله... فإن هذا لا يكفي للدخول في دائرة التوحيد... إذ بقي الركن الآخر الذي ذكره الله هنا قبل ركن الإيمان لأهميته ألا وهو (الكفر بالطاغوت) فإيمانهم بالله دون كفر بالطاغوت هو مثل إيمان قريش بالله دون أن يكفروا بطواغيتهم... ومعلوم أن هذا الإيمان لم ينفع قريشاً ولا عصم دماءهم أو أموالهم حتى ضمّوا إليه البراءة والكفر بطواغيتهم قال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} ومعلوم أن هؤلاء الحكام لا يكفرون بطواغيت الشرق والغرب ولا يتبرؤون منهم بل هم بهم مؤمنون تولّوهم وتحاكموا إليهم في فضِّ الخصومة والنزاع وارتضوا أحكامهم الكفرية وقوانينهم الدولية في ظل هيئة اللمم (الأمم) ومحكمتها الكفرية
وقد أنكر الله عز وجل إيمان من انتسب إلى الإسلام ثم هو لم يكفر بالطاغوت وسمى إيمانه زعماً فقال {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به} وهؤلاء المذكورون في الآية إنما أرادوا التحاكم فقط... فكيف بمن تحاكم فعلاً في كل شؤونه إلى طواغيت الشرق والغرب وارتضى أحكامهم الكفرية المضادة لأحكام جبار السموات والأرضين(1) وكذلك الطواغيت العربية وميثاقهم الشبيه بميثاق الأمم الملحدة الكافرة الدولي... فهم لجميع أولئك الطواغيت أحباب وأولياء لم يعتزلوهم ولا اجتنبوهم حتى يخرجوا من الشرك ويحكم لهم بالإسلام، فإن كان أمر طواغيت العرب مشتبه على من في عينه رمد فإن أمر طواغيت الكفر الغربيين والشرقيين من نصارى وبوذيين وهندوس ونحوهم لا يخفى والله إلا على العميان ومع ذلك فهم لهم أخوة وأحباء
لم يكفروا بهم بل تجمع بينهم روابط الأخوة والصداقة والمودة ويجمع بينهم ميثاق الأمم المتحدة!! الكفري وتحكم بينهم عند الخصومة محكمتها الكفرية التي مقرها في لاهاي... فهم ما حققوا ركن التوحيد الأول المهم (الكفر بالطاغوت) حتى يكونوا مسلمين هذا إذا سلمنا جدلاً أنهم قد جاءوا بالركن الآخر (الإيمان بالله) فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنهم هم أنفسهم أيضاً طواغيت يُعبدون من دون الله فيشرِّعون للناس من الدين ما لم يأذن به الله ويدعون الناس ويأطرونهم أطرا ويقصرونهم قصراً على متابعة تشريعاتهم الباطلة هذه كما سيأتي
ويكفرون أيضاً من باب استهزائهم بدين الله تعالى وشرائعه وترخيصهم لكل مستهزئ به عبر الصحافة أو الإذاعة أو التلفاز وغيرها من المؤسسات الإعلامية الإباحية الكافرة التي حموها وحرسوها بقوانينهم وعساكرهم وقد قال الله تبارك وتعالى {قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}... وهذه الآيات نزلت في أناس كانوا مسلمين يصلون ويصومون ويزكون وخرجوا في غزوة من أعظم غزوات المسلمين ومع هذا كفّرهم الله عز وجل لما صدرت منهم كلمات استهزؤوا فيها بحفظة كتاب الله، فكيف بأراذل الخلق الذين لا يرجون لدين الله وقاراً وقد جعلوه ألعوبة وهزءاً لكل ساقط وساقطة واتخذوه وراءهم ظِهرياً، وأعظم من ذلك كله أن ينزلوه منزلة قوانينهم وتشريعاتهم الساقطة فيصوِّتوا عليه ويتشاوروا في أوامره ونواهيه مع العلمانيين والنصارى والملاحدة، فهل أعظم استهزاء من هذا؟...
r ويكفرون من باب توليهم للمشركين الغربيين والشرقيين ومظاهرتهم على الموحدين سواء بعقد اتفاقيات النصرة (الأمنية) التي يتبادلون من خلالها المعلومات عن الموحدين الذين يصِفونهم بالإرهابيين والأصوليين ويتم من خلال ذلك تسليم الموحدين والمجاهدين لأعدائهم من طواغيت البلدان الأخرى، وقد قال الله تعالى {ومن يتولّهم منكم فإنه منهم} ولأجل ذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام "الناقض الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على الموحدين كفر" وذكر حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في رسالته حكم موالاة أهل الإشراك عند قوله تعالى {ألم تر إلى الذي نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لإن أُخرجتم لنَخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لَننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون}: إن هذه الآيات نزلت في أناس كانوا يُظهرون الإسلام ويقبل منهم ذلك في الدنيا فيعامَلون معاملة المسلمين لأن المسلمين مأمورون بالأخذ بالظاهر، لكنهم لمّا عقدوا مع اليهود اتفاقية نصرة ضد الموحدين والله يعلم إنهم باتفاقيتهم هذه كاذبون، ومع ذلك فقد عقد بينهم وبين أهل الكتاب عقد الأخوة، ووصفهم بأنهم إخوانهم وهذا تكفير لهم... فكيف بمن عقد اتفاقيات النصرة مع المشركين من عبيد القوانين الشرقيين والغربيين وحارب الموحدين وسلّمهم إلى حكومات بلادهم؟.. فعلاً لا شك أنه داخل في هذا الحكم من باب أولى...
r ويكفرون من باب ابتغائهم الديمقراطية ديناً عوضاً عن دين الله، فقد قال تعالى {إنّ الدينَ عند اللهِ الإسلام} والإسلام دين الله الحق الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم وأما الديمقراطية فهي دين اخترعه اليونان وهي دون شك ليست من دين الله فهي قطعاً ليس من الحق {وماذا بعد الحق إلا الضلال} وهؤلاء القوم يُصرِّحون ويُعلنون دوماً مُختارين غير مُكرهين، بل فخورين مسرورين بأن الديمقراطية وليس الإسلام خيارهم الوحيد، والديمقراطية مع الإسلام لا يجتمعان إذ لا يقبل الله إلا الإسلام الخالص
والإسلام الذي هو دين الله الخالص جعل التشريع والحكم لله وحده أما الديمقراطية فهي دين شركي كفري جعلت الحكم والتشريع للشعب لا لله، والله جلّ ذكره لا يقبل ولا يرضى أن يجمع المرء بين الكفر وبين الإسلام أو بين الشرك والتوحيد... بل لا يُقبل الإسلام والتوحيد ولا يصح إلا إذا كفر المرء وتبرأ من كل دين غير دين الله الخالص
 
قال تعالى عن يوسف {إني تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ® واتّبعت ملّة ءاباءي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن نُشرك بالله من شيء} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" وفي رواية عند مسلم أيضاً "من وحّد الله..." الحديث، وليست الأديان فقط هي النصرانية واليهودية بل وأيضاً الشيوعية والديمقراطية ونحوها من الملل والمذاهب الأرضية الكافرة، فلا بد من البراءة من جميع الملل والنِّحل والمذاهب الباطلة ليقبل الله دين الإسلام
فكما أنه لا يجوز في دين الله أن يكون الإنسان مسلماً نصرانياً أو مسلماً يهودياً، فكذلك لا يرضى الله أن يكون المرء مسلماً ديمقراطياً، فالإسلام دين الله والديمقراطية دين كفري... {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخـرة من الخاسرين} هذا إذا جمعوا بين الإسلام والديمقراطية، فكيف إذا تركوا الإسلام وأعرضوا عن تشريعه وأحكامه وحدوده... واختاروا الديمقراطية وحكمها وتشريعها
r ويكفرون من باب مساواتهم أنفسهم وأربابهم المتفرقون مع الله الواحد القهار، بل هم في دينهم الذي يدينون به أعظم عندهم من الله، فأحكام الله تُعطّل ويُضرب بها عرض الحائط، ومن عارضها أو حادّها أو حاربها أو استهزأ بها فهو حبيبهم ووليُّهم يحميه قانونهم ويكفل له حرية الإعتقاد وحق الحياة مع أنه في دين الله مرتد. أما من خالف قوانينهم أو طعن في دساتيرهم أو تعرّض لأربابهم المتفرقين فهو المغضوب عليه وهو المعذَّب والمسجون والمفتون، ومن مظاهر ذلك ـ وهي كثيرة ـ أن سابّ الله والدين والرسول عندهم إن روجع ـ فإن المحكمة التي تحاكمه محكمة مدنية، وحكمه لا يتجاوز الشهر أو الشهرين، بخلاف سابّ آلهتهم وأربابهم المتفرقين من الملك أو وزرائه أو غيرهم من أوليائه فإنه يُحاكم في محكمة أمن الدولة وقد يصل حكمه إلى ثلاث سنوات، فهم لم يساووا أنفسهم وأربابهم بالله بل طغوا وعظّموها أكثر من تعظيـم الله ـ هـذا إن كـان عندهم تعظيماً لله ـ ولقد كان شرك المشركين الأوائل أنهم أحبوا أندادهم كحب الله، أو ساووهم بالله في التعظيم أو التشريع أو الحكم أو العبادة، قال تعالى {ومن الناس من يتّخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله...} وقال تعالى {تالله إن كنّا لفي ضلال مبين إذ نُسَوِّيكم برب العالمين}... أما مشركوا زماننا فإنهم طغوا وبغوا فعظموا آلهتهم وأربابهم ورفعوهم فوق مقام الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً... وهذا أمر لا يجادل فيه إنسان يعرف واقعهم وقوانينهم وستعرف فيما يأتي أن الحاكم الحقيقي والمشرِّع الأصيل والرئيس عندهم الذي يبتّ ويصدِّق على القوانين هو ليس الله ودينهم بل هو طاغوتهم وإلههم الذي يحبونه ويعظمونه أكثر من الله... ويغضبون له ولدينه ولحكمه ويعاقبون ويسجنون ويثورون بما لا يفعلونه إذا انتهِك دين الله وسُبّت شريعته، والواقع المرير الذي نعيشه خير أو أكبر شاهد وبرهان على هذا
r ويكفرون من باب التشريع مع الله عز وجل وهو شرك العصر الذي روّجوا له ودعوا الناس إليه.. بل شجعوهم على الدخول فيه والمشاركة فيه وحببوه إليهم... وشرّعوا في دساتيرهم قوانين مضادة لدين الله وتوحيده وجعلت لهم الحق في التشريع مطلقاً في جميع الأبواب، كمـا هـو نص المادة (26) من الدستور الأردني: أ ـ السلطة التشريعية تناط بالملك وأعضاء مجلس الأمة... ب ـ تمارس السلطة التشريعية صلاحياتها وفقاً لمواد الدستور، وقد قال تعالى منكراً على المشركين {أم لهم شركاء شرّعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال عز وجل {ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} وقال سبحانه عن الطاعة في التشريع ولو في مسألة واحدة {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} فكيف بممارسة السلطة التشريعية مُطلقاً، ويوضّح أنّهم قد أشركوا بالله عز وجل في أبواب التشريع شركاً أكبراً بواحاً... أنّ دساتيرهم نصّت على أنّ (الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع)، وهذا يعني أنّهم لا يوحّدون الله في التشريع... بل للتشريع عندهم مصادر متعددة رئيسية وفرعية، فما الشريعة الإسلامية عندهم إلا مصدر من تلكم المصادر، أو بتعبير أوضح كفري: (إن الآلهة والأرباب المشرعين عندهم كثيرة متعددة متفرقة منها الرئيسي ومنها الفرعي وما الله عندهم إلا إله من أولئك الأرباب المتفرقين) تعالى الله عن إفكهم وعما يقولون علواً كبيراً، ومن كان عنده معرفة وخبرة في قوانينهم سيعرف أن إلههم الرئيسي الذي لا يقر قانون ولا يصدّق أو ينفذ إلا بتوقيعه هو في الحقيقة طاغوتهم سواء ملكاً أو أميراً أو رئيساً وأن تشريعات الإله الواحد الأحــد الــذي في السـمـاء إن عُمِـل بها في بعـض الأبــواب لا تنـفّذ ـ عندهم ـ ولا تأخذ صفتها القانونية إلا برضى وإقرار وتصديق ربُّهم هذا الذي في الأرض، تعالى الله عما يفترون علوًّا كبيراً(2). واعلم أنّ كفرهم هذا أبشع من شرك كفار قريش الذين كانوا مثل هؤلاء يعدّدون الآلهة والأرباب ويشركونها مع الله في العبادة، لكن كانت عبادة أولئك سجود وركوع وعبادة هؤلاء تشريع في كافة الأبواب، إنما كان شرك هؤلاء أبشع، لأن مشركوا قريش كانوا يجعلون الله عز وجل أعظم آلهتهم وأعلاها وأجلّها ويزعمون أنهم ما يعبدون هذه الآلهة إلا لتقرِّبهم إلى الإله الأعظم الذي في السماء، حتى كانت تلبية أكثرهم التي يهلّلون بها:
لبّيك اللهم لبّيك    لبّيك لا شريك لك
إلا شريكاً هو لك    تمـلـكـه ومـا ملـك
أما مشركوا الدستور فإنهم وإن سلّموا بأن الله هو الرزّاق وهو محي الموتى وهو الذي ينزل المطر من السماء وينبت الكلأ وهو يشفي ويهب
لمن يشاء الذكور أو يزوِّجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً، نعم... هم يؤمنون بأنّ الأمر في ذلك كله له وليس لملكهم أو أميرهم... لكن التّشريع والأمر والحكم النافذ عندهم فوق كل حكم وتشريع، هو في الحقيقة لمليكهم طاغوتهم أو إلههم الذي في الأرض، فهم في الشرك مثل كفار قريش إلا أنهم زادوا على كفر أولئك أنهم يعظمون أمر وحكم وتشريع آلهتهم وأربابهم المتفرقة في الأرض أكثر من الله وحكمه وتشريعه... فتباًّ وسحقاً سحقاً لمن كان أشد كفراً من أبي جهل وأبي لهب {ءَإلهٌ مع الله تعالى الله عمّا يُشركون}.
واعلم أن أبواب شرك هؤلاء القوم وكفرهم البواح عديدة وكثيرة لو أخذنا في عدِّها واستقصائها لطال بنا المقام فهم لم يتركوا نوعاً من أنواع الكفر إلا وقد ولغوا فيه.. ولكن فيما ذُكر كفاية لمن أراد الهداية، أما من ختم الله على قلبه فلو انتطحت الجبال بين يديه لما انتفع أو اهتدى... والذي نُريد أن نُعرِّف الموحد به هنا أن كفر القوم لا يتوقف على باب واحد حتى يُردّ بشبهة أو بقولة... فالقوم قد مُلئوا شركاً وكفراً إلى مشاشتهموالمهمّ هنا في هذا الموضع أن تعرف أن باب الإشراك في التشريع ليس هو باب الحكم بغير ما أنزل الله الذي يُنسب إليه قول ابن عباس "كفر دون كفر" ولا هو الباب الذي كان الخوارج يجادلون ابن عباس وغيره من الصحابة فيه، إذ لم يكن في زمن ابن عباس والخوارج من حكام المسلمين من يدّعي لنفسه حق التشريع مع الله ولا كان فيهم من مارس التشريع ولو في مسألة واحدة إذ هذا عندهم كفرٌ بالإجماع... وابن عباس الذي يُنسب إليه قول "كفر دون كفر" هو نفسه راوي سبب نزول قوله تعالى في طاعة المشركين ولو في قضية تشريعية واحدة(3) {وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون} فلو كان الذي يدندن حوله الخوارج هو الحكم بمعنى التشريع لما قال فيه ابن عباس "كفر دون كفر" ومعاذ الله أن يقول فيه ذلك وهو حبر القرآن، وإنما الذي كان ينتقده الخوارج هو بعض التجاوزات والإجتهادات التي كانوا يرونها خاطئة.. ومن أمثلة ذلك قصة الحَكَمين التي جرت في التحكيم بين جيش علي ومعاوية وما جرى فيها... حيث ثار الخوارج وقالوا حكّمتم الرجال واحتجّوا بعموم قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وكفّروا الحكمين ومن رضي بحكمهما وكفّروا معاوية وعلي رضي الله عنهما وكان ذلك أول مخرجهما فناظرهم الصحابة، ومن أكثر من ناظرهم ابن عباس وحاجّهم بأن ذلك من الصلح بين المسلمين وليس من الحكم بغير ما أنزل الله بمعناه الكفري، واستدل بقوله تعالى في الخصومة بين الزوجين {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها...} وأنه إن جاز تحكيم الرجال في الصلح بين الزوجين فمن باب أولى أنه يجوز لحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلّم، وناظرهم بغير ذلك من الأدلة وبيّن لهم أن هذا الباب وإن حصلت فيه أخطاء أو تجاوزات فهو ليس من الكفر الذي يذهبون إليه وعلى هذا يُحمل ما ينسب إليه من قول "كفر دون كفر" فرجع منهم خلق وأصر آخرون فقاتلهم علي والصحابة وحصل معهم ماهو معلوم في كتب التاريخ... فهل ما القوم فيه اليوم من التشريع مع الله واستبدال
أحكام الله وابتغاء غير الله حكماً ومشرعاً وغير الإسلام ديناً ومنهجاً... هل هذا كله يا أولي الألباب من ذلك الباب الذي جرى بين الصحابة وأنكره الخوارج وجرت فيه المناظرة حتى يصلح تنزيل ما قيل في ذلك الزمان عليه؟ وعلى كل حال فقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} عام يشمل الحكم بمعنى الجور (كفر دون كفر) والحكم بمعنى التشريع (كفر بواح) ولذلك فإن السلف كانوا إذا وردت الآية وأراد المستدل بها المعنى الأول (الجور) أوّلوها وحملوها على الكفر الأصغر وإن استدل بها على المعنى الثاني (التبديل والتشريع) أبقوها على ظاهرها أي الكفر البواح الحقيقي، مع أن الأصل في الآيات أنها تتناول الكفر الأكبر البواح الذي مارسه اليهود حين اتّفقوا وتواطئوا على أحكام غير أحكام الله... ولذلك قال البراء بن عازب (ض) كما في صحيح مسلم بعد أن ذكر قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} و{الظّالمون} و{الفاسقون} قال "في الكفار كلها" فلو أن الخوارج أوردوها في موضعها على من شرّع أو وقع في ما وقع به اليهود لما أنكر عليهم السلف ولأبقوا الكفر فيها على حقيقته ولما أوّلوها(4)، لكنّ ذلك لم يكن موجوداً في ذلك الزمان حتى يخوضـوا
فيه، ولو كان موجوداً لما أوردوا عليه مثل هذه الآية الظنية الدلالة التي تحمل المعنيين بل لأوردوا نصوصاً قطعية الدلالة لا تحتمل إلا المعنى التشريعي التبديلي كقوله تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقوله تعالى {وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإنْ أطعتموهم إنّكم لمشركون} وقوله تعالى {أَفَحُكم الجاهلية يبغون...}الآية وقوله {ومَن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه}، لكنّ شيئاً من هذا لم يكن موجوداً عند الخلفاء في زمن الخوارج وابن عباس ومن ثم فلا يحل إيراد ردّ الصحابة عليهم في ذلك المقام، وتنزيله على شرك هذه الحكومات وكفرهم البواح في هذا الزمان... ومن فعل ذلك فقد لبّس الحق بالباطل والنور بالظلام، بل هو على خطر عظيم ورب الكعبة لأن لازم ذلك أنّ ما كان ينتقده الخوارج على الصحابة والخلفاء الرّاشدين هو من جنس شرك هؤلاء الحكام الكافرين وفي هذا تكفير للصحابة... ولا شك أنّ من كفّرهم هو الكافر لأن الصحابة قد رضي الله عنهم ورضوا عنه... ورميهم بشيء من شرك هؤلاء الحكام وكفرهم تكذيب لله بأنّه قد رضي سبحانه عنهم، أو وصفٌ له بأنه يرضى عن القوم الكافرين، وذلك كلّه كفر... فليحذر امرئ على دينه من هذه المهالك وليتّق الله من رمي الصحابة بالكفر والشرك ترقيعاً للطواغيت....
 
الشبهة الثانية
أنهم يقولون لا إله إلا الله
قالوا: كيف تُكفِّرون هؤلاء العساكر أو أولئك المخابرات والأمن الوقائي ونحوهم من أنصار القوانين، ومن ثم لا تُسلِّمون عليهم وتعاملـونهم معاملة الكفار مع أنّهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُسامة حكمه بالكفر على الرجـل الذي تلفّـظ بـ لا إله إلا الله ومن ثَم قتله، وقال له: "كيف قتلـته بعـد أن قال لا إلـه إلا الله؟" والله جل ذكره يقول {يا أيها الذين ءامنوا إذا ضربتـم في سبيـل الله فتبيّنـوا ولا تقـولوا لمن ألقـى إليكم السلام لست مؤمـناً تبتغـون عـرض الحيـاة الدنيا فعنـد الله مغانم كثيرة كذلك كنتـم من قبـل فمَنَّ الله عليـكم فتبيّنـوا إنّ الله كان بما تعملون خبيـراً} وكذلك حديـث "من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة" وحديث "البطاقة" الذي فيه أنّ رجلاً يأتي يوم القيامة بتسع وتسعين سجلاّ من الذنوب حتى يظن أنه هالك توزن هذه السجلات ببطاقة عليها لا إله إلا الله فترجح البطاقة، وكذلك الحديث المروي عن حذيفة مرفوعاً قال: "يُسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى في الأرض منه آية وتبقى لئام من الناس ما يدرون ما صلاة وما صدقة وما نُسُك يقولون هذه الكلمة (لا إله إلا الله) أدركنا آباءنا عليها فنحن نقـولها" قال صِـلَة*: "فما تنفعـهم لا إلـه إلا الله وهم لا يدرون
ما صـلاة وما صدقة وما نُسُك؟" قال حذيفة: "تنجيـهم من النـار"... ونحو ذلك من الأحاديث(1)..
 والجواب من وجوه عدّة
 أولاً: قد قال تعالى في كتابه {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات مُحكمات هنّ أُمّ الكتاب وأُخر مُتشابهات فأماّ الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون ءامنّا به كل من عند ربِّنا وما يذّكر إلا أولوا الألباب} فبيّن الله عزّ وجلّ بأنه ابتلى عباده بأن جعل في الشريعة التي أنزلها إليهم آيات محكمات وقواعد راسيات وأوامر واضحات بيِّنات عليها مدار الشريعة وإليها يُردّ الأمر عند النزاع والخلاف وهناك أُخر متشابهات أو ظنِّية الدلالة تحتمل أكثر من معنى وبيّن أنّ أهل الزّيغ والضلال هم الذين يتّبعون المتشابه ويذرون المحكم ابتغاء تأويله عن مراد الله الذي أنزله عليه للتلبيس وابتغاء الفتنة بين عباد الله... أما طريقة طلاّب الحق وأهل العلم الراسخين فيه أن يردّوا المتشابه  الذي يشكل عليهم إلى المحكم الذي هو أصل الكتاب وأمّه الذي عليه مدار التأويل وإليه يُردّ الخلاف وقد بيّن الشاطبي في الإعتصام أن هذه القاعدة طططططط ليس في الكتاب الكريم وحده بل وفي السنّة النبـوية والسـيرة المحمدية حيث أنّ هنــاك أحـاديث وحـوادث
أعيان قيلت أو حصلت في مـناسـبات معيـنة إذا أُخذت وحدها دون مبيِّناتها كان ذلك من قبيل اتِّباع المتشابه وترك المحكم، وكذلك أخذ العام دون مخصّصه أو المطلق دون مقيّده، أو التشبُّث بنص من طائفة من النصوص جميعها يتناول قضية واحدة وإهمال غيره مما هو مرتبط به، ذلك كله من اتباع المتشابه وترك المحكم وهو من التقوّل على الله بغير علم وتقيل الشرع ما لم يقل به... إذ لا بد من الإيمان بكلام الله ورسوله جميعاً وأخذه كله والدخول في السلم كافة، أما تتبّع ما يوافق الهوى فهي طريقة أهل الزيغ والضلال وهو سبب ضلال أكثر أهل الضلالة، فالخوارج ضلّوا لما أهملوا نصوص الوعد وركّزوا على نصوص الوعيد فأخذوا قوله تعالى {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} وهو نص عامّ يكون من المتشابه إن لم يُردّ إلى مقيّده ومبيّنه الذي أهملوه وهو قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وكذلك المرجئة... تمسّكوا ببعض النصوص المتقدِّمة التي تبشِّر من قال لا إله إلا الله بالجنة... فأرجأوا الأعمال وأهملوها واكتفوا في الحكم بالإسلام ودخول الجنة بالكلمة وحدها دون علم معناها أو تحقيق مقتضياتها... مع أن العلماء قد بيّنوا كما روى البخاري في صحيحه عن وهب بن منبّه أن "لا إله إلا الله مفتاح الجنة... لكن لكل مفتاح أسنان فمن جاء بمفتاح له أسنان فتح ومن جاء بمفتاح ليس له أسنان لم يفتح" وأسنانها هي تحقيق شروطها واجتناب نواقضها، إذ لا يشك عاقل عارف بحقيقة دين الإسلام أن المراد من لا إله إلا الله هو معناها التي تتضمّنه من نفي وإثبات، أما أن يتلفّظ بها دون معرفة معناها أو دون تحقيق مقتضاها واجتناب نواقضها، فهذا ليس هو مطلوب الله عزّ وجلّ ولذلك قال سبحانه {فاعلم أنه لا إله إلا الله} وقال سبحانه {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} والحديث المذكور "من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنة" دليل أيضاً على أنّ معرفة معنى هذه الكلمة شرط لتحقيقها ولنيل موعود الله عليها، وقد بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب من مات على التوحيد دخل الجنّة) فالمطلوب هو تحقيق التوحيد الذي تحويه هذه الكلمة وليس فقط التلفّظ بها، كما في حديث معاذ المروي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاه وعلّمه أسلوب الدعوة لمّا بعثه إلى اليمن فقال: "فليكن أوّل ما تدعوهم إليه لا إله إلا الله" وفي رواية إلى أن يوحِّدوا الله" فدلّ ذلك على أنّ المراد حقيقة الكلمة، ما تنفيه وما تثبته، وليس فقط اللّفظ المجرّد من ذلك، وقد بيّنا لك معنى التوحيد في الأوراق التي سبقت هذه والتي سمّيناها "هذان خصمان" وعرفت أنه معنى (لا إله إلا الله) و(العروة الوثقى) وأنّ له ركنين: النفي والإثبات، أمّا النفي فهو (لا إله) وهو الكفر بالطاغوت وأمّا الإثبات فهو (إلا الله) وهو عبادة الله وحده، كما بيّنه تعالى في تعريف العروة الوثقى حيث قال {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} حيث جعل سبحانه شرط النجاة والإستمساك بالعروة الوثقى أمرين لا انفكاك لأحدهما عن الآخر (الكفر بالطاغوت) و(الإيمان بالله) ولا يكفي (الكفر بالطاغوت) وحده دون (الإيمان بالله) كما لا ينفع (الإيمان بالله) وحده دون (الكفر بالطاغوت) بل لابدّ من الجمع بين الأمرين، فما دام هؤلاء العساكر أو غيرهم غير كافرين بالطاغوت بل هم حرّاسه وأنصاره وجنده وأركانه وحفظته.. فهم ليسوا بمسلمين ولا مؤمنين ولا متمسِّكين بالعروة الوثقى بل هم من الهالكين وإن تلفّظوا بـ (لا إله إلا الله) مئات بل آلاف المرات
وكما قلنا من قبل... فإنّ أتْباع مُسيلَمة الكذّاب كانوا يقولون لا إله إلا الله ويصلّون ويصومون ويشهدون أنّ محمداً رسول الله لكن أشركوا معه رجلاً بالرسالة... فكفروا وحلّت دماءهم وأموالهم ولم تنفعهم لا إله إلا الله بمجرد أن أشركوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلاً من عشيرتهم في النبوة والرسالة.. فكيف بمن أشرك مع الله ملكاً أو أميراً أو رئيساً أو عالماً بالعبادة.. فصرف له أي نوع من أنواع العبادة سواءً سجود أو ركوع، أو تشريع كما هو حاصل في شرك هؤلاء القوم؟!!!.
وتعريف هذا الأمر أعني الكفر بالطاغوت مع الإيمان بالله ما هو إلا شرط من شروط عدّة لهذه الكلمة العظيمة (لا إله إلا الله) ولقد تكلّم العلماء في شروطها وذكروا الأدلّة على ذلك ليعرف المسلم إنّها ليست بكلمة تُلفظ باللسان وكفى، فذكروا الشرط المتقدم: 1ـ العلم بمقتضاها نفيـاً وإثبـاتاً. 2ـ الإنقيــاد لحقـوقها. وذكـروا أيضاً: 3ـ الصدق المنـافي للكذب. 4ـ الإخلاص المنافي للكذب. 5ـ اليقين المنافي للشـك. 6ـ المحبة لهذه الكلمة لما دّلت عليه. 7ـ القبول المنافي لردّ  أي شيء من لوازمها.
وتحصيل ذلك مبسوط في مواضعه بأدلّته والمراد من ذكره ها هنا أن تعرف أنّ أمثال هذه الأحاديث المذكورة في هذه الشبهة لها ما يُبيِّنها من النصوص الأخرى والسنّة. فحديث "من مات وهو يعلم أنّه لا إله إلا الله دخل الجنّة" لا بدّ أن يفسَّر ويُربط بقوله تعالى {ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} ولا بدّ أن يردّ إلى قوله تعالى {إنّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفـر ما دون ذلك لمن يشاء} فلو أنّ مشركاً قال "لا إله إلا الله" ألف مرّة، وكان يعلم معناها لكنّه لم يترك شركه ولا تبرّأ من طاغوته فلن يغفر الله له، ولم يستمسك بالعروة الوثقى، ولن يدخل الجنة {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم اللهُ عليه الجنّة}. وهكذا يجب أن يُضاف إلى ذلك كل حديث يتكلم في الموضوع نفسه ليحيط بالموضوع من كل جوانبه ولا نكون ممّن يتّبعون ما تشابه من النصوص، فيُضم إليه حديث الصحيحين: "...أشهد أن لا إله إلا الله وأنّني رسول الله لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكّ بهما دخل الجنة" ومثله حديث: "ما من أحد شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرّم الله عليه النّار" ونحو ذلك من الأحاديث وبمثل هذه الطريقة يُفهم الدين ويُنال العلم ويُعرف مراد الله كما يحب ويرضى6
ومثل ذلك يقال في حديث "البطاقة" فالمراد ببطاقة (لا إله إلا الله) كما عرفت، هو تحقيق التوحيد من الإيمان بالله والكفر بالطواغيت وعدم الإتيان بشيء من نواقضها، وبِردّ هذا الحديث وفهمه على ضوء النصوص المحكمة كقوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشـاء} تعـرف أنّ السجلاّت التسعة والتسعون هي ذنوب
مكفِّرة دون شكّ، أو ذنوب دون الشـرك، لأن الشـرك الذي يناقض هذه البطاقة لا يغفره الله أبداً كما في الآية، وصاحبه لا يدخل الجنة إن مات عليه، ولو أنّ في هذه السجلات ناقض من النواقض لما طاشت به البطاقة، لأنها ساعتئذٍ لا تكون بطاقة التوحيد، بل بطاقة كلمة تقال باللسان دون معرفة معناها أو تحقيق لوازمها
فلو أنّ في هذه السجلات عبادة غير الله أو التشريع مع الله أو نُصرة المشرِّعين وتولِّيهم أو سبّ الدين أو حرب أوليائه لَمَا رجحت أو نفعت أو دخل صاحبها الجنّة لكن السجلات ذنوب دون الشرك، وفي الحديث كلمة التوحيد وبيان أنّ من حقّقها فأتى بها كما يحبّ ربُّنا ويرضى، فإن التوحيد بعظمته يغمر التي هي دون الشرك ويدمغها(7). وكذلك حديث حذيفة المذكور "يُسرى على كتاب الله في ليلة فلا تبقى فيه في الأرض آية..." فهو إن صحّ يُحمل على أنّ هؤلاء الناس الذين لا يعرفون من الشرائع إلا هذه الكلمة محققين لمعناها غير مشركين بالله... لأنّ الله لا يغفر أن يشرَك به.
أمّا تركهم الصلاة والصدقة والنُّسك... فإن كانوا موحِّدين فإنهم يعذرون بذلك لأنّ هذه الشرائع لا تُعرف إلا بالحجة الرسالية، وقد ذكر الحديث أن كتاب الله يُرفع في زمنهم فلا تبقى منه في الأرض آية، وكتاب الله هو الحجّة التي علّق الله النّذارة بها... فقال {وأوحي إليّ هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} فمن بلغه القـرآن فقد قامت عليه الحجّة ومن لم يبلغه فإنه يُعذر بفـروع الشريعة، لكنه لا يُعـذر بتـرك التوحيد
واتِّباع الشرك والتنديد لأن هذا أمر قد أقام الله عليه حجته البالغة من أبواب شتى كما سيأتي بعد، وحال هؤلاء إن صحّ الحديث كحال زيد بن عمرو بن نفيل الذي كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم حنيفاً مسلماً من غير أن يأتيه نبي، فإنه حقّق التوحيد وكان على ملة إبراهيم كما في صحيح البخاري، وكان يقول: "يا رب لو أعلم طريقة أعبدك بها لعبدتك"  فمثل هذا يعذر بتفاصيل الشرائع التي لا تُعرف عن طريق الرسل... فهو لا يدري كيف الصلاة أو الزكاة ولذلك يُعذر فيهما، أمّا التوحيد فلا ينجو إلا بتحقيقه لأنه حق الله على العبيد الذي بعث من أجله كافة رسله.. وأقام عليه الحجج المتنوعة، وهذا كله يُصار إليه إذا كانت لفظة "تنجيهم من النار" مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، لكنّ الصواب أنّها موقوفة مدرجة من قول حذيفة كما قرّره أهل العلم في الحديث، بل الصواب أن الحديث برمّته لا يصحّ إذ هو حديث ضعيف فيه "أبو معاوية خازم الضرير" مدلِّس وفي مروياته عن غير الأعمش ضعف، وقد رواه هنا من غير طريق الأعمش، وهو فوق ذلك رأس من رؤوس الإرجاء كما ذكر الحافظ بن حجر وغيره، وهذا الحديث من بضاعة المرجئة، وقد حذّر السلف من قبول مرويات أهل البدع إن كانت مما ينصر بدعتهم، وهذا الحديث مما ينصر قول المرجئة فكيف إذا انضاف إلى ذلك الضعف والتدليس؟.
أما حديث أُسامة: فإنه في الكافر الذي يُسْلم لتّو ولا يُظهر ناقض من نواقض الإسلام، فمثل هذا لا يحل قتله لأنه دخل إلى العصمة، فوجب الكف عنه حتى يأتي بناقض، ولذلك بوّب له النووي في صحيح مسلم (باب تحريم قتل الكفر بعد قوله لا إله إلا الله) ولكن يجب أن يُعلم أنّ هناك فرق كبير بين (ابتداء العصمة واستمرارها) فالعصمة تبدأ للكافر بمجرد تلفّظه بكلمة التوحيد ولكن استمرار تلك العصمة لا يكون إلا بالتزام حقوق هذه الكلمة، وخلع واجتناب نواقضها، فالكافر عندما يهمّ بالدخول للإسلام يتلفّظ بكلمة التوحيد ومجرّد تلفّظه يعني استعداده لقبول شرائع الإسلام واستسلامه لحقوقها وبراءته من نواقضها، فإن لم يفعل ذلك لم تستمر العصمة التي دخل إليها بالكلمة بل انقطعت، فالحديث إذاً لرجل أسلم للتّو ولم يُظهر شيئاً من نواقض الإسلام، وليس هو فيمن يزعم الإسلام منذ دهر. وإذا نظرت في حاله وجدته حرباً على الإسلام وأهله، سِلماً للطاغوت وأوليائه وقوانينه وباطله، فهذا لو قالها مئات بل آلاف المرات لم تكن لتنفعه حتى ينخلع عن الكفر والشرك والطاغوت الذي يعبده ويتولاّه ويحرسه لأنّ هذا هو أهم معاني هذه الكلمة التي لم يحققها دهره كله.
ومثل ذلك قوله تعالى {لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً... } فإنها نزلت كما في الحديث الذي يبيّن سبب نزولها في مجموعة من الصحابة مرّوا برجل معه غنيّمة فسلم عليهم وأظهر الإسلام ولم يُظهر شيئاً من نواقضه، ومع هذا فعلوا معه كما فعل أسامة فقتلوه بحجة أنّه قالها خوفاً منهم وأخذوا غنمه، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك في القرآن، إذِ الواجب فيمن أظهر لنا الإسلام أن نعامله بظاهره مالم يُظهر لنا خلاف ذلك، فإن تبيّن لنا بعد ذلك أنه يُظهر الإسلام ودين آخـر كفـري ولم يبـرأ منه ـ كالديمقـراطية ـ مثلاً ـ أو موالاة القوانين الوضعية ـ لم نقبل منه حتى يبرأ من ذلك كله ويُخلص دينه لله رب العالمين، ولذك قال سبحانه قبل ذلك وبعده {فتبيّنوا}.
 
الشبهة الثالثة
أنّهم يُصلُّون ويصومون
قالوا: كيف تكفرون عساكر القانون وأنصار الدستور وبعضهم يصلّي ويصوم ويحج، وربما ذكروا حديث مسلم الذي فيه ذكر بعض أمراء الجور فقال الصحابة: أفلا نقاتلهلهم يا رسول الله؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" ومثل ذلك حديث ذي الخويصرة الذي تكلّم في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد: ألا أقتله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس يصلّي؟ أما إني لم أؤمر بقتل المصلين" وفي رواية "يتحدث الناس محمد يقتل أصحابه..."
 الجواب نقول: لقد علمت أنّ دين الله الذي بعث الله به كافّة رسله هو التوحيد... ولا بد أن تعلم  أنّ هذا التوحيد هو شرط رئيسي من شروط قبول العمل والعبادة... فالعمل لا يكون خالصاً متقبلاً إلا بتحقيق هذا الشرط مع الشرط الآخر الذي هو المتابعة، (أن يكون العمل موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم) والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم العبادة وبطلانها، ولذلك فقد ذكر الله عزّ وجلّ أعمالاً كثيرة للكفار والمشركين لكنه بيّن سبحانه أنّه لا يتقبّلها بل يجعلها هباءً منثوراً لأنّها فقدت شرط الإخلاص والتوحيد قال تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد اللهَ عنده فوفّاه حسابه...} وفي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك به معي غيري تركته وشركه" وهذا يستدلّ به العلماء على الشرك الأصغر فيدخل فيه الأكبر من باب أولى.
فالشاهد من هذا كله أن التوحيد شرط في صحة الصلاة وفي قبولها، والدخول للإسلام إنما يكون من باب التوحيد (لا إله إلا الله) وليس من باب الصلاة أو غيرها من العبادات، ومن جاء بصلاة وصيام أو زكاة من غير أن يحقق التوحيد بركنيه (الإيمان بالله) و(الكفر بالطاغوت) فإن أعماله جميعها باطلة، وليس صلاته فقط... ومن أوضح الأدلّة على ذلك قوله تعالى {ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين} وكذلك قوله تعالى {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} 188 الأنعام.
اجتناب الشرك بالله تعالى بترك عبادة الطواغيت أو متابعتهم على تشريعاتهم أعظم شروط قبول العمل، وهو أول فرض افترضه الله تعالى على عباده وأمرهم به، وبدونه تحبط الأعمال... وهؤلاء العساكر بدلاً من أن يستجيبوا لأمر الله تعالى بالكفر بالطاغوت {وقد أُمروا أن يكفروا به}، بدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فحرسوه وحموه ونصروه واتّبعوه ونصروا تشريعاته وقانونه الكفري... ولذلك لا تقبل منهم صلاة ولا صيام أو غيره من الأعمال ما داموا لم يحققوا شرط قبولها... أرأيت لو أنّ هذا العسكري أو ذلك الضابط أو الجاسوس أو الأمن الوقائي أو المخابرات أو غيرهم صلّوا صلاة من غير وضوء.. ترى صلاة أحدهم مقبولة عند الله تعالى؟.. أم هي باطلة مردودة على وجهه؟.. لعلك تقول هذا أمر لا يشك فيه شخصان ولا ينتطح فيه عنزان، لا شك أنّ الصلاة بغير وضوء باطلة مردودة...
فتأمّل هذا الموضع يا عبد الله، إذا كان ترك الطهارة مبطل للصلاة لأنه شرط في صحتها، فكيـف بترك التوحيـد والكفر بالطواغيت الذي أعظم شروط قبول الأعمال؟؟؟ ولذك فهو الشرط والأمر الذي أوجب الله على ابن آدم تعلمه والعمل به قبل تعلم الصلاة وشروطها والطهارة وشروطها ونواقضها ولذلك فإن الصحابة ما عُذِّبوا في مكّة ولا ابتُلوا وهاجروا وأوذوا إلا من أجله... فلم يعذبهم قومهم ولا آذوهم لأجل الصلاة أو الزكاة أو غيرها من الطاعات والشرائع... وإنما طولبوا أول ما طولبوا بتحقيق ذلك الأمر العظيم لأن تلك العبادات لا تقبل بدونه، ولذلك لم يكن من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من طريقة دعوته هو وأصحابه أن يبدأوا في دعوة الناس بالصلاة أو بالزكاة أو نحوها من الشرائع قبل دعوتهم لتحقيق التوحيد والبراءة من الطواغيت... لا والله ما كانت هذه دعوتهم أبداً... وحديث معاذ بن جبل في الصحيحين حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وعلّمه أسلوب الدعوة وطريقتها قال: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية "إلى أن يوحدوا الله" "فإن هم أطاعوك لذلك فأعْلِمهم أنّ الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله قد أوجب عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ إلى فقرائهم... الحديث" فالحكم على الإنسان بالإسلام ابتداءً لا يكون من الصلاة بل من التوحيد... ثم يؤمر إن حقق التوحيد بالصلاة والزكاة وسائر الأركان، فمن حقّق التوحيد واعتصم بالعروة الوثقى نجى وقُبلت منه الصلاة وسائر الأركان، ومن تمسّك بشرائع وأركان الإسلام دون أن يتمسّك بالعروة الوثقى فهو من جملة الهالكين، لأن الله لم يضمن لشيء من عرى الإسلام الإيمان أن لا تنفصم إلا إذا انضمّت إليها وارتبطت بها هذه العروة الوثقى التي ضمن سبحانه أن لا تنفصم... قال تعالى {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}256 البقرة. لذك فإنّ كثيراً ممن نصبوا بالعبادة في الدنيا تردّ عبادتهم على وجوههم يوم القيامة ويكون مصيرهم النار، قال تعالى {وجوه يومئذٍ خاشعة ­ عاملة ناصبة} أي في العبادة، ثم مصيرها: {تصْلى ناراً حامية} لأن عبادتها وصلاتها وتعبها ونصبها هباءً منثوراً لأنه بغير توحيد وإخلاص
فإذا فهمت هذا وعلمت أنه قاعدة من قواعد دين المسلمين وأصل محكم من أصولهم يُردّ إليه كل ما تشابه من النصوص، فافْهَم على ضوئه بعد ذلك كل حديث يشكل عليك في هذه الأبواب... ومن ذلك حديث مسلم المتقدم في شأن الأمراء ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ما أقاموا فيكم الصلاة، فهو إشارة ألى إقامة الدين والتوحيد مع الصلاة وليس الصلاة وحدها، قال النووي في صحيح مسلم: إقامة الصلاة إشارة إلى إقامة الدين.اهـ فليس المقصود إقامة الصلاة وحدها بغير توحيد!! بدليل أنّ الأمر بالقتال كما في الأحاديث الأخرى المبيّنة لهذا الحديث يذكر أول ما يذكر فيها قبل الصلاة والزكاة: (تحقيق التوحيد) كما في الحديث المتفق عليه "أُمرت أنْ أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله" فتأمّل ذكر التوحيد وأنّ القتال عليه ومن ثم على حقوقه ولوازمه... وهذا معنى قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم} فإن تابوا: أي من الشرك والكفر وخلعوا عبادة غير الله وحقّقوا التوحيد ومن ثم أقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فقد عُصمت دماؤهم وأموالهم إلا بحقّها، أما إقامة الصلاة دون التوبة من الشرك ودون التوحيد، أو إقامة الصلاة مع نواقض لا إله إلا الله فلا تغني من الله شيئاً... وكم من مصلٍّ في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر وارتدّ بكلمة من نواقض هذا التوحيد العظيم، ومن أمثلة ذلك ما قدّمناه لك في النّفر الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاهدين في غزوة تبوك وهم من المصلِّين ومع ذلك كفروا لمّا جاءوا بناقض من نواقض التوحيد والإسلام هو استهزائهم بحفظة كتاب الله قال تعالى {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم...} وكانوا يصلّون، وعلى مثل هذا مضى علماء المسلمين ولذك جعلوا في كتب الفقه باباً يسمى (باب حكم المرتدّ) وعرّفوه بأنه المسلم الذي يرتدّ بقول أو عمل أو اعتقاد بعد إسلامه، وربما يكون مصلياً... ولذلك أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بكفر عبيد الياسق وهو دستور أو قانون التتار في زمنه كما أفتى بكفر أنصارهم وعساكرهم مع أنه كان فيهم من يصلّي، وراجع المجلد 28 من فتاويه
ومثل ذلك كله يقال في حديث ذي الخويصرة فقوله "أليس يصلي؟" أو "لعله أن يكون يصلي" فيه قاعدة الأخذ بالظاهر والعلانية وترك السريرة إلى الله، وأنّ ذلك الرجل كان يُظهر التوحيد، لأن القاعدة التي عرفتها فيما تقدم تقرِّر أنّه لا قبول للصلاة وحدها دون التوحيد، فلو أنّ هذا الرجل كان يعبد الطاغوت أو ينصره أو يقبل غير الله مشرعاً وحكماً ويُظهر ذلك لماَ قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام بالصلاة وحدها8
 
الشبهة الرابعة
من كفّر مسلماً فقد كفر
قال المجادلون عن عساكر القوانين: إنّ التكفير أمر خطير لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قال: "من كفّر مسلماً فقد كفر" بل سمعنا بعض جهّالهم يقول: لا يجوز تكفير إلا من وُلد كافراً من أبوين كافرين.
 الجواب نقول: ليس التكفير على إطلاقه أمر خطير ومذموم ولكن تكفير المسلم بمجرّد الهوى وبمحض العصبية دون دليل شرعي هو المذموم والخطير، وليس كل الكفر مذموم كما أن ليس كل الإيمان ممدوح، فمن الإيمان ما هو واجب  كالإيمان بالله ومنه ما هو محرّم وشرك كالإيمان بالطاغوت، وكذلك الكفر منه ما هو واجب وممدوح كالكفر بالطاغوت ومنه ما هو مذموم كالكفر بالله وآياته ودينه، وأيضاً كما تكفير المسلم دون دليل شرعي أمر خطير فكذلك الحكم على المشرك أو الكافر بالإسلام وعصمة الدم وإدخاله بالتالي في الأخوة الإسلامية والموالاة الإيمانية أمر خطير وفساد كبير، قال تعالى {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}. أمّا الحديث المذكور فلم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم بهذا اللفظ أبداً، فليس كل من كفّر مسلماً يكفر، خصوصاً إذا كان ذلك المسلم قد أتى "بما سمّاه الله ورسوله كفراً" ومفهوم هذا اللفظ أن المسلم لا يكفر أبداً وهذا منقوض بقوله تعالى عن أُناس كانوا يُظهرون الإسلام {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} وقوله سبحانه {إنّ الذين ارتدُّوا على أدبارهم من بعد ما تبيّن لهم الشيطان سوّل لهم وأملى لهم} وقوله عزّ وجلّ {يا أيها الذين ءامنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللهُ... الآية} ونحوها من الآيات.. وإذا كان المسلم لا يكفر أو يرتدّ أبداً فما فائدة أحكام المرتدّ التي دُوِّنت في كتب الفقه الإسلامي، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلّم "من بدّل دينه فاقتلوه" وإنّما لفظ الحديث في صحيح مسلم "من قال لأخيه المسلم يا كافر فإن كان كذلك، وإلا حار عليه" وقوله "فإن كان كذلك" دالٌّ على جواز التكفير للمسلم الذي يظهر فيه كفر وتنتفي في حقه موانع التكفير، أي إنْ كان كذلك فلا حرج. "وإلا حار عليه" أي: إن لم يكن قد كفر، ولذلك من كفّر مسلماً ظهر منه شيء من الكفر، فإنه لا يكفر حتى وإن كان حكمه لم يوافق الصواب لقيام مانع من موانع التكفير لم يطّلع عليه، بل إذا كان تكفيره له غضباً لدين الله وحميّة له، فإنه مأجور على ذلك كما حصل مع الفاروق رضي الله عنه، عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلّم "دعني أضرب عنق هذا المنافق" يعني بذلك (حاطِب)، فمع أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم بيّن أنّ حاطب لم يكفر إلا أنّه لم يقل لعمر ـ لقد حار عليك الكفر لأنّك كفّرت مسلماً ومن كفّر مسلماً فقد كفـر، كما يزعم هؤلاء.. وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد إلى هذا المعنى عند ذكره الفوائد المستفادة من قصة حاطب بن أبي بلتعة... فعُلِم أنّ الذي يُذمّ، وهو على أمر خطير، إنما هو من كفّر مسلماً لمحض الهوى والعصبية والحزبية
ويجب أن يعرف الموحِّد لمزيد من الفائدة أنّ هذا الحديث مُؤوّل عند العلماء على وجوه عدّة أحدها: أنّه من وصف دين المسلمين والتوحيد بأنه كفر فقد كفر. ووجه آخر: حملوه على من استهان واستهتر بتكفير المسلمين فإنّذلك قد يؤدِّي به إلى الكفر، وغير ذلك من التّأويلات، وقد ذكر النووي منها في شرح صحيح مسلم خمسة أوجه.. وإنّما اضطروا إلى تأويله لأن ظاهره معارض لأصل من أصول الدين المحكمة عند أهل السنّة والجماعة في أبواب الكفر والإيمان وهو قوله تعالى {إنّ الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولا شك أنّ رمي المسلم بالكفر غضباً دنيوياً أو للهوى هو دون الشرك، ولذلك اضطرّ من اضطرّ إلى تأويله
ولو قلنا نحن الذين يحتج علينا خصومنا بمثل هذه الشبهة أنّ من كفّرنا أو كفّر غيرنا من الموحدين المسلمين بغضاً له ولتوحيده وبراءته من الطواغيت، وسمّى دينه دين الخوارج نصرة لأعداء التوحيد من الطواغيت، ومظاهرة لقوانينهم وعساكرهم بأنّه هو الكافر استدلالاً بهذا الحديث لكان ذلك حقّاً لا مرية فيه، ولما احتيج إلى تأويله، لأنّ ذلك كفر دون شكّ... أمّا قول ذلك الجاهل لا يكفر إلا من وُلِدَ كافراً من أبوين كافرين، فهو قول ساقط يدلّ على أنّ قائله لا يعرف حقيقة دين الإسلام، وتكلُّف الردّ عليه مضيعة للوقت والجهد، ومعناه أنّ المسلم لا يكفر أبداً، وهذا لم يقل به من المتقدِّمين لا عالم ولا جاهل، ويكفي في كشف بطلانه ما تقدّم من كلام الله تعالى وكلام رسوله وكلام العلماء في باب أحكام المرتدّ فإنّ فيه شفاء لمن في ناظريه عمىً.
 
الشبهة الخامسة
العــذر بالجــــهل
قال المجادلون عن عساكر القوانين: إنّ هؤلاء العساكر جهّال بحاجة إلى من يعلمهم ويدعوهم ويبيِّن لهم، فهم لا يعرفون أنّ سادتهم طواغيت وانّ طاعتهم لهم في التّشريع عبادة وشرك وبالتالي فليس تولِّيهم لهم وحراستهم للقانون كفر
 الجواب: لا خلاف في أهمية دعوة هؤلاء العساكر وغيرهم وأنّ ذلك من أحسن الأعمال قال تعالى {ومن أحسن قولاً ممّن دعى إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} لكن كل مشرك بالله في العبادة(9) قبل الدعوة وأثناءها وبعدها، ما داموا غير ملتزمين بالتوحيد ولا كافرين بالطواغيت فهم مشركون، والقول بأهمية دعوتهم لا يغير حكمهم ولا يجعلهم موحدين أويرفع مسمّى الشرك عنهم، فالله عزّ وجلّ يقول {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أَبْلِغه مأمنه ذلك بأنّهم قوم لا يعلمون} فقد سمّاهم الله بالمشركين قبل أن يسمعوا كلام الله ووصفهم بذلك مع أنّهم لا يعلمون ـ أي جهّال ـ وأمره لنبيه صلى الله عليه وسلّم بدعوتهم وإسماعهم وتبليـغهم الدعـوة لم يغيِّـر من ذلك الوصـف شيـئاً، لا قبل الدعوة ولا
أثنــاءها ولا بعـدها، ما دامـوا ملازمـين للشرك، غير ملتزمـين للتوحيـد وذلك لأنّ الشرك الأكبر المناقض للحنيفية السمحة، وهو صرف شيء من العبادة لغير الله عزّ وجلّ، أمر لا يُعذر فاعله بالجهل أصلاً، فقد أقام الله عزّ وجلّ عليه حجته البالغة من أبواب شتى ذكر العلماء منها:
ـ الأدلّة الكونية الظاهرة في كون الله على وحدانيته حيث يستدل بربوبيته على وحدانيته سبحانه، فالذي خلق ورزق وصوّر ودبّر هو وحده الذي يجب أن يُعبد، ويشرّع ولا يجوز شرعاً وعقلاً أن يُصرف شيء من ذلك اغيره سبحانه {ألا له الخلق والأمر}.
ـ ومنها أخذه سبحـانه الميثـاق على بني آدم في ذلك حيـث استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر قال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربِّكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين أو تقولوا إنّما أشرك ءاباؤنا من قبل وكنّا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}.
ـ ومنها فطرة الله التي فطر الناس عليها وغرسها في قلوب العباد على أنّ الخالق الرّازق هو وحده المعبود المشرِّع قال صلى الله عليه وسلّم: "يولد المولود على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" وفي الحديث القدسي "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فحرّمت عليهم ما أحللت لهم".
ـ وإضافة إلى ذلك أرسل سبحانه الرسل جميعهم من أجل هذه الغاية العظيمة {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} {رسلاً مبشِّرين ومنذرين لئلاّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فمن لم تصله رسالة ذلك النبي سمع بغيره، إذ جميعهم وإن تنوّعت شرائعهم إلاّ أنّ دعوتهم إلى تحقيق التوحيد وهدم الشرك والتنديد في كافة أبوابه واحدة.
ـ وأنزل سبحانه الكتب جميعها تدعوا إلى هذه الغاية العظيمة وختمها بكتاب لا يغسله الماء ولا يبلى ولا يبيد، فتكفّل بحفظه إلى يوم القيامة وعلّق النذارة ببلوغه في كثير من أبواب الدين فكيف بأعظم وأهم وأخطر باب من تلكم الأبواب (التوحيد) قال تعالى {وأوحي إليّ هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} وقال تعالى {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكِّين حتّى تأتيهم البيِّنة} ثم عرّف البيِّنة والحجّة سبحانه بقوله {رسولاً من الله يتلو صُحُفاً مطهّرة} فمن بلغه هذا القرآن العظيم فقد قامت عليه النذارة والحجّة.
أمّا أن يُراد بالحجة وقيامها بأن يؤتى إلى كل واحد في مكانه فتقام عليه الحجة فهو ما أنكره الله تعالى في قوله تعالى عن المشركين {فمالهم عن التّذكرة معرضين ­ كأنّهم حُمُرٌ مستنفرة ­ فرَّت من قسورة ­ بل يريد كل امرئٍ منهم أن يؤتى صُحُفاً منشّرة} فهؤلاء الطواغيت وأنصارهم من عساكر القانون يقتفون آثار من قبلهم من المشركين في الإعراض عن القرآن المتضمن للتوحيد وإهماله وينفرون من سماع الحق كنفور وفرار الحمر الوحشية من الأسد، ثم يأتي أولئك المجادلين عنهم ليرقِّعوا باطلهم، فيزعمون أنّ الحجّة غير مقامة عليهم، ولازم هذا مناقض ومعارض لقوله تعالى {قل فلله الحجّة البالغة} وقد علمتَ أنها مقامة في التوحيد من وجوه وأبواب شتى، وأحدها كافٍ في إقامة الحجة فكيف بالخمسة كاملة كما هو الواقع اليوم، ولذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لرجل سأله عن أبيه: "أبي وأبوك في النار" مع أنّهم من القوم الذين قال الله فيهم {لتنذر قوماً ما أُنذر ءاباؤهم فهم غافلون} وما ذلك إلاّ لأنّ مسألة التوحيد والشرك قد أقام الله عليها الحجة البالغة كما تقدّم من أبواب شتى وليس من باب الرسل وحدهم، ومع هذا يأتي بعض من لا يعرفون من الدين إلاّ الإسم ولا من معالمه إلاّ الرسم يطالبون بإقامة الحجة في باب الشرك والتوحيد الذي بُعِث من أجله جميع الرسل وأُنزلت له كافة الكتب وتواترت عليه الحجج فإن نقصت حجّة قامت أخرى، وربما أقاموا على ذلك شبهاً بآيات يضعونها في غير موضعها كقوله تعالى {وما كنّا معذِّبين حتى نبعث رسولاً} يريدون: أنّه لا تكفير إلاّ بعد إقامة الحجّة في كل باب حتى في الشرك الأكبر، وليس في هذه الآية وجه دلالة على قولهم الفاسد هذا فالله جلّ ذكره لم يقل "وما كنّا مكفرين حتى نبعث رسولاً"!!! وإنّما قال {معذِّبين} والمقصود بذلك عذاب الإستئصال الدنيوي، وهي كقوله تعالى {وما كان ربُّك مهلِكُ القرى حتى يبعث في أُمِّها رسولاً يتلو عليهم ءاياتِنا} أو العذاب الأخروي قال تعالى {كُلَّما أُلقيَ فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا: بلى} أمّا التكفير خصوصاً في الشرك الأكبر وعبادة غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فليس هو المراد بذلك، إذ الكافر إمّا أن يكون كافراً معانداً كالمغضوب عليهم، عرفوا الحق وكفروا به، أو يكون كافرا جاهلاً معرضاً أو مضلّلاً كالضالِّين الذي لبّس عليهم علماؤهم، وليس كل كافر يكون كفره عن علم وجحود للحق بل أكثر الكفار جُهّال ضلاّل، إنما أوردهم النار كفرهم بتقليد ساداتهم وكبرائهم ويحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً، وذلك لأنّ باب الشرك الأكبر قد أقام الله عليه حججه البالغة، لذلك لا يُعذر الجاهل فيه لأنّ جهله يكون إعراضاً وليس جهل من لم تقم عليه الحجّة، وفي قصة زيد بن عمرو بن نُفيل عبرة، فقد حقّق التوحيد دون أن يأتي له رسول خاص بزمانه وذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم مباشرة، فقد كان من القوم الذين قال الله تعالى فيهم {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك.. } ومع ذلك فقد كان زيد حنيفاً على ملّة سيدنا إبراهيم اهتدى إلى التوحيد بفطرته فكان يبرأ من طواغيت قومه ويتجنّب عبادتها ونصرتها ورءاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند الكعبة وقد قُدِّمت له سُفرة "مذبوحة على نصبهم" فأبى أن يأكلها وقال: يا معشر قريش الشاة يخلقها الله وينزل لها المطر من السماء وينبت لها الكلأ من الأرض ثم أنتم تذبحونها لغيره.. فتأمّل كيف أنّ التوحيد مزروع في الفطرة، وأنّ الشرك هو الطارئ الذي اغترعه الناس وانحرفوا إليه، فهذا رجل لم يأتيه نبي خاص في زمانه ومع هذا عرف التوحيد وحقّقه فنجا وعُذر بتفاصيل الشريعة والعبادات التي لا تُعرف إلاّ عن طريق الحجّة الرسالية، فقد كان يقول يا رب لو طريقة ترضيك أعبدك بها لفعلت.. فعُذر بترك الصلاة ونحوها من الشرائع التي لا تُعرف إلاّ عن طريق الرسل، بينما لم يُعذر أهل زمانه ومنهم والديّ النبي صلى الله عليه وسلّم لأنّهم لم يحقِّقوا التوحيد ويبرأوا من الشرك والكفر والتنديد، مع أنّـهم لم يأتهم نذير... فتدبّر هذا المعنى جيداً، واعلم أنّ هذا الباب (باب العذر بالجهل) قد تكلّم فيه العلماء، وخاض فيه المتأخرون ولا يفهمه حق الفهم إلاّ من أحاط به من جوانبه، أمّا من أخذ منه بنص واحد، وبنى عليه المسائل الكبار فقد جانب الصواب وأبعد النجعة... واعلم بعد هذا كله أنّ غالب كفر هؤلاء الطواغيت وأنصارهم اليوم ليس هو من الجهل، بمعنى عدم بلوغ الحجّة الرسالية، فقد بُعِث خاتم الرسل وليس بعده ثَم رسول، وكتاب الله الذي عُلِّقت به النذارة محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولكن أكثر الناس استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فهم معرضون عن طلب الحق ونصرة أتباعه، فكفرهم كفر إعراض، وليس بسبب عدم بلوغ الحجّة الرسالية، أو عدم وضوح غيرها من الحجج، فالذين {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} كانوا يجهلون أنّ الطاعة في التشريع عبادة وشرك كما قال عُدي "ما عبدناهم" ومع هذا كفروا بصرف ذلك لغير الله وصصاروا متخذين أرباباً غير الله ولم يُعذروا بهذا الجهل، لأنّ الأمر منافٍ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالذي خلق ورزق وصوّر وبرأ هو الذي لا يجوز أن يشرِّع ويأمر ويحكم أحد سواه... وهذا الضابط أو ذلك الشرطي وذلك المخابرات أو الأمن الوقائي إذا ما سألته عن دينه زعم أنّه الإسلام وأنّ كتابه القرآن، ثم هو مع ذلك يخذل الإسلام والقرآن ويحاكم ويسجن ويتجسّس على من يسعى لتحكيمه ونصرته والدعوة إلى التوحيـد والـبراءة من الشرك والتنديد، وينصر ـ أي الشرطي وغيره ـ شرع الطاغوت وقانونه الوضعي ودستوره الشركي ويظاهر أولياءه من أعداء التوحيد ويُعينهم على أهل الحق ويكثر سوادهم... فهل مثل هذه الحال تخفى على من زعم الإسلام وهل هي من الغامضات والمشكلات الملتبسات حتى يقال "لم تقم عليهم الحجّة" إنّ الأمر والله أوضح من الشمس في رابعة النهار.. فها هنا صفّان: صف شرك وصف توحيد، صف القانون الوضعي وصف الشريعة المطهّرة، وهؤلاء القوم.. يختارون بمحض إرادتهم وبكامل عقلهم واختيارهم صف الطاغوت إمّا حبّاً له أو استحباباً للحياة الدنيا "الراتب والتقاعد" ونحوه على الآخرة، يقاتلون في سبيله وينصرونه ويحاربون من ناوأه أو اجتنبه من أهل صف التوحيد، الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، ولذلك سيقول هؤلاء الجند يوم القيامة عندما يعاينون فوز أهل التوحيد وهزيمة وهلاك أهل الشرك والتنديد {ربّنا إنّنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا ربّنا ءاتهم ضِعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً... } فتأمل قولهم {فأضلّونا السبيلا} هل عُذروا به؟؟؟!!! وقال عن كثير من الكفار بأنّهم كانوا {يحسبون أنّهم يُحسنون صنعاً} {ويحسبون أنّهم مهتدون} و{يحسبون أنّهم على شيء} وكل ذلك لم ينفعهم لأنّهم نقضوا أمراً أقام الله عليه حجّته البالغة، ولو كان خطأهم وانحرافهم حصل في أمر غامض ملتبس لا تكفي فيه الحجّة الفطرية لربما كان حالهم فيه على غير هذا(10) والكلام في هذا البا وقد فصّل فيه أهل العلم ولنا فيه مُصنَّف سمّيناه (الفرق المبين بين العذر بالجهل والإعراض عن الدين) يسّر الله طبعه لكن في هذا القدر في هذا المحل كفاية لمن أراد الهداية.
 
الشبهة السادسة
الإكراه والإستضعاف والرزق والمصلحة
قــالوا: إنّ كثيراً من هؤلاء العساكر لا يحبّون الطاغوت بل منهم من يكفر به يبرأ من قانونه الوضعي، وهم في قلوبهم يبغضون الطاغوت لكنّهم يعتذرون بالرزق والراتب وأنّه لم يبق لبعضهم إلا سنوات قليلة على التقاعد.. وربما ذكروا الإستضعاف والإكراه وبعضهم يرى أنّ في عمله هذا مصلحة للإسلام وخدمة للمسلمين
 والجواب: أن نقول إنّ الفرق بين أهل السنّة وغيرهم من أهل الزيغ والضلال: أنّ الإيمان عند أهل السنّة اعتقاد بالجنان وقول باللِّسان وعمل بالجوارح والأركان، وليس هو فقط اعتقاد بالقلب باطناً، فالكفر بالطاغوت لا بد أن يكون ظاهراً وباطناً، ولذلك كنّا مطَالبين في شريعتنا بالأخذ بالظاهر وعدم البحث عن الغيب الذي في القلوب والذي لا يعلمه إلاّ الله، فالمنافق إذا أبطن الكفر وبغض الشريعة لكنّه أظهر لنا الإيمان بالله والكفر بالطاغوت والتزام شعائر الإسلام الظاهرة، ولو كان ذلك عنده خوفاً من سلطان الإسلام، فإنّنا مطالَبون بمعاملته بالظاهر، ولا دخل لنا بباطنه، ولذلك فإنّه يُحسب على المسلمين ويُعصم دمه ومالـه وحسـابه في الآخـرة على الله، حيث قال تعـالى {إنّ المنافقـين في
الدّرك الأسفـل من النّار} والعكـس بالعكـس.. فكـذلك من زعــم أنّه مؤمن بالله في باطنه كافر بالطاغوت في قلبه وكان ظاهره مخالفاً مناقضاً لزعمه بأن صار من عساكر الشرك وأنصار الطاغوت يكثِّر سوادهم ويحرسهم ويحمي قانونهم "الطاغوت الذي أمره الله أن يكفر به" فإنّنا نأخذه ونحكم عليه بظاهره، هذا، لأنّنا كما في الحديث "لم نؤمر أن نشقّ عن قلوب الناس ولا عن صدورهم" ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح البخاري "إنّ ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنّ الوحي قد انقطع، وإنّما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدِّقه وإنْ قال أنّ سريرته حسنة" وفي حديث البخاري أيضاً في قصة الجيش الذي يغزو الكعبة فيخسف الله بأوله وآخره مع أنّ فيهم من ليس منهم والمجبور ونحوهم، ففي ذلك دلالة واضحة على هذا الأمر، لأنّ أمّ المؤمنين حينما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن حكم هؤلاء الذين خرجوا مكثرين لسواد ذلك الجيش وليس بنيّتهم قتال المؤمنين، قال: "يهلكون مهلكاً واحداً ويُبعثون على نيّاتهم يوم القيامة" وفي هذا يقول شيخ الإسلام في الفتاوى وهو يتكلم عن جيش عبيد الياسق "الدستور التّتري" وفيهم من كان يصلِّي ويزعم الإكراه ونحوه، قال: "فإذا كان الله عزّ وجلّ وهو على كل شيء قدير لم يميِّز بينهم في أحكام الدنيا فهل يُطلب منّا نحن أن نميِّز؟" أقول: وأنّا لنا ذلك؟ وكيف؟‍‍‍‍‍‍‍‍‌! وهل لنا إلاّ أحكام الظاهر، فهذا صفٌّ خرج محارباً لأهل الإسلام مكثرا لسواد أهل الشرك والأوثان فحكم من كان فيه وأظهر تولِّيه ونصرته في الدنيا حكمهم، وليس لنا نحن بأحكام الآخرة الآن... ويدل على ذلك معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلّم للعباس حين أُسِر في صف الكفار ببدر فزعم أنّه مسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أمّا سريرتك فإلى الله وأمّا ظاهرك فلنا" وأمره أن يفدي نفسه كالمشركين... فعامله معاملة الصف الذي خرج مكثِّراً لسواده، وهذا هو ما نفعله تماماً مع عساكر الشرك وأنصار القانون، أفلا يسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو أتقانا وأخوفنا لله وأورعنا في التكفير والحكم على الناس وفي غير ذلك.
أما دعوى الإكراه فمردودة في مقامنا هذا لأن الإكراه على إظهار الكفر حدَّ له العلماء حدوداً لا تنطبق على هؤلاء بحال، ويمكن لطالب الحق مراجعتها مفصّلة في غير هذا الموضع(11)، وفرّقوا تفريقاً واضحاً بين الإكراه على المعاصي وبين الإكراه على الكفر أو الشرك أو نصرة المشركين ونحوه... ومن تأمّل حال هؤلاء القوم لم يجدهم مكرهين بحال، بل هي أعمالهم ووظائفهم التي يفخرون بها ويتقاضون عليها الرُّتب والرواتب والأجور، وأي إكراه هذا الذي يُدفع لصاحبه أجراً وينال عليه الإمتيازات ويمكث فيه العشرة والعشرون سنة نصيراً للشرك بزعمهم مكرها؟؟! فإن تعذّروا بالإستضعاف فقد تعذّر به قوم من قبلهم فما قُبل منهم، وهم قوم أسلموا بمكة ولم يفارقوا صف المشركين إلى صف أهل التوحيد، فلما كان يوم بدر أخرجهم المشركون في مقدمة الصفوف.. وتأمل أنهم لم يخرجوا معهم متطوِّعين ولا دخلوا جيشهم راغبين يأخذون على ذلك الرتب والرواتب كحال هؤلاء، ومع ذلك أنزل الله تعالى فيهم قرآناً يبّين أنّهم ليسوا بمعذوريـن في ذلك ولا هم بمستضعفين
فقال سبحانه {إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم؟} أي: في أي صف كنتم؟ أفي صف التوحيد والشريعة؟ أم في صف الشرك والتنديد والدستور الوضعي والقانون الكفري؟! والجواب الواضـح الصحيح أن يقولوا: كنا في صف المشركين.. فتأمل كيف يتبرؤون من صف الطاغوت وجيشه الذي هلكوا فيه منذ اللحظة الأولى من لحظات الدار الآخرة، لأن هذا أهم أمرٍ مرّطوا فيه وأهملوه وهو الأمر الذي أوردهم المهالك، ولكن هل ينفعهم ذلك وقد ماتوا في صفه ولم يفارقوه ويبرءوا منه في الدنيا؟! فتأمل كيف يجيبون على سؤال الملائكة: {فيمَ كنتم؟} قالوا: كنا مستضعفين في الأرض} تلك حجتهم التي توارثوها عبر جيوش الكفر {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} وهكذا يجيبوننا دوماً عندما ندعوهم إلى التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد، وهكذا يجادل عنهم المجادلون عندما نبيّن حكمهم في دين الله وموقفهم من التوحيد يقولون: {كنّا مستضعفين في الأرض} الراتب.. والبيت.. والرزق... فهل يُقبل منهم مثل هذا؟! تأمل جواب الملائكة لهم وحذار من هذا الموقف وأصحابه {قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً} ألم تكن أبواب الرزق واسعة فتهجروا ذلك الصف الشركي إلى غيره؟ وهل مَنْ يرزق النمل والنحل والطير وسائر الدواب والمشركين والكفار عاجز عن أن يرزق المتقين والأبرار الذين يتطهّرون من صف الشرك ويفارقونه محبّة ونصرة للتوحيد وأهله؟ تعالى الله علواًّ كبيراً عما يصفون
وتأمل تهديد الله ووعيده لهم بقوله {فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيراً} مع أنّهم لم يخرجوا في ذلك الجيش متطوعين ولا مختارين، لكنهم قصّروا في الهجرة في بادئ الأمر، فلمّا عزم الأمر تورّطوا في الخروج في صف أعداء الموحدين، ثم قال تعالى {إلاّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ­ فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّاً غفوراً} فلم يعذر الله سبحانه وتعالى بعذر الإستضعاف إلا من لا يستطيع حيلة في الخروج والفرار إلى الله من صف الكفار كأن يكون جريحاً أو عاجزاً أو مقيداً أو مأسوراً، أو لا يهتدي طريقة وسبيل الهجرة الفرار إلى الصف المسلم كأن يكون امرأة أو صبياً أو شيخاً أو ضعيفاً، ثم رغّب الله تعالى بالهجرة والفرار من هذه الصفوف المشركة ووعد أهلها بالرزق الوفير الواسع، فمن ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، وذلك ليقطع كل حجج القوم الواهية فقال {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعة} وآخرون رقّعوا واقعهم المنحرف بحجة المصلحة زعموا أنّهم يخدمون الدين بوظائفهم هذه المنتنة، وواقع حال أكثرهم خدمة جيوبهم وكروشهم وقروشهم ليس إلاّ... ورحم الله سفيان الثوري يوم قال وهو يوصي بعض أصحابه ويحذرهم من مداهنة السلاطين والدخول عليهم ـ مع أنّ سلاطينهم كانوا يحكِّمون شرع الله، إلاّ أنّهم أظهـروا بعض المعاصي فكيف بسلاطيـن الكفر والشرك اليوم؟ـ قال رحمه الله: "إياك والدخول عليهم وإياك وأن يقال لك تدرأ مظلمة أو تشفع في مظلوم و... و... فإنّ هذه خديعة إبليس اتّخذها فجّار القرّاء سلّماً..." أجل إنّها خديعة إبليس التي يسمّونها اليوم بمصلحة الدعوة يهدمون بها التوحيد، أعظم مصلحة في الوجود، ويلبسون الحق بالباطل وقد صدق سيد قطب يوم وصفها بأنها أمست عند كثير من الدعاة مزلّة وصارت صنماً يعبدونه من دون الله.. ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى في ذلك فتوى سُئل فيها عن رجل من أهل السنّة سمع بمجموعة من قطّاع الطرق الذين يجتمعون على قصد الكبائر وقطع الطريق والقتل وفعل الفواحش والمنكرات وأنّه قصد إلى هدايتهم فلم يتمكّن من ذلك إلا بأن عمل لهم سماعاً بدف بغناء مغني غير فاحش، إلى أن اهتدى منهم خلق وصار الذين كانوا لا يتورّعون عن الكبائر يتورّعون عن الصغائر والشبهات، فهل طريقة هذا الشيخ جائزة ومشروعة؟! فبيّن رحمه الله تعالى أنّ هذه الطريقة مبتدعة وأنّ في طريقة الرسول الرحمانية غنىً عن الطرق الشيطانية، فإنّه حتى وإن كانت النتيجة ظاهرها حسن فإنّ الغاية عند أهل الإسلام لا تبرر الوسيلة.. فالنجاسة لا تزال بالنجاسة، ولا يتطهّر من البول بالبول.. وكما أنّ غاية الداعية عظيمة ومطهّرة فيجب أن تكون وسائله للبلوغ إلى هذه الغاية كذلك، فإنّ أعظم مصلحة في الوجود هي التوحيد وأعظم مفسدة في الوجود هي الشرك، فكل مصلحة تعارض تلك المصلحة فهي مردودة وأن أي مفسدة أمام مفسدة الشرك فمغمورة، فلا يحل لأحد يفهم عِظم التوحيد وخطر الشرك، أن يصير مِعولاً من معاول هدم التوحيد، وحارساً من حراس الشرك والتنديد بحجة جلب مصلحة أخرى مزعومة أو درأ مفاسد أخرى مرجوحة أياًّ كانت، ولا أن يجعل دينه كبش فداء ينحره على عتبات مصالح ودنيا الآخرين، والكلام في هذا الباب يطول وله موضعه المفصل(12)ولكن اللّبيب تكفيه منه هنا الإشارة والله المستعان.

الخـــــــاتمــــــة
أخيراً وليس آخراً فقد سمعنا كثيراً ممن لم يعرفوا حقيقة هذا التوحيد يقولون: ماذا تستفيدون من تكفير هؤلاء العساكر وأولئك المخابرات ونحوهم من أنصار الطواغيت؟!
 فنقول أولاً: إن كان هذا هو حكم الله، فليس مهماًّ أن تعرف حكمته وإنما المهم عند عباد الرحمن أن تنشرح له صدورهم وترضى به نفوسهم وتسلِّم له تسليماً
 ثم نقول: إنّ فوائد ذلك لا تقدّر ولا تحصى ولو لم يكن فيها إلاّ تحقيق التوحيد العملي (ملّة إبراهيم) المتضمِّن للبراءة من الشرك والمشركين لكفى، قال تعالى {قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءاؤ منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء إبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} فالله يدعونا للإقتداء والتّأسي بهذ القدوة الحسنة والملة العظيمة التي أهم أركانها البراءة من الشرك والمشركين والكفر بهم ومعاداتهم، فكيف يحقق هذا من لا يعرف الكافر من المسلم؟؟ وممّن يتبرأ وكيف؟! قال تعالى {قل يا أيها الكافرون ­ لا أعبد ما تعبدون... السورة}.
 وأيضاً من الفوائد العظيمة تمييز الخبيث من الطيب واستبانة سبيل المجرمين، قال تعالى {وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} فمن لم يعرف الكفر من الإيمان، والكافر من المسلم أنّا له أن يستبين سبيل المجرمين، وأنّا له أن يميِّز سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين؟ وكيف سيطبِّق الحب في الله للمؤمنين والبغض في الله للمشركين وذلك من أوثق عرى الإيمان وفي تركه تخبُّط عظيم وفساد كبير قال تعالى {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير...} وتظهر هذه الموالاة وتلكم المعاداة بتحقيق آثارها عملياً... فكيف يحققها من لا يميِّز بين الصفوف؟! لذلك فإنك تجد من أهمل هذا الأمر واستخفّ به لا يعرف من يحب ومن يبغض ومن يوالي ومن يعادي، وتجده يخلط وربما يساوي في المعاملة بين المسلمين والمجرمين، مع أنّ الله تعالى أنكر ذلك فقال سبحانه {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون}؟ وقال تعالى {أم نجعل المتّقين كالفجار}؟
ولذلك فقد رتّب الله على ذلك أحكاماً في عصمة الدم وفي الميراث والنكاح والطعام (الذبح) والمعاملة من سلام ومودّة وغير ذلك من الحقوق الواجبة للمسلم أو الخاصّة به من دون سائر الكفّار، ولذلك فإنك تجد فرقاً واضحاً بيِّناً بين سبيل الموحدين وطريقة تعاملهم مع الكفار والمشركين وسبيل غيرهم ممّن لا يرفعون بهذا الأمر رأساً ويهملونه بل ينكرونه على أهل التوحيد ولذلك اختلط الحابل بالنابل عندهم... فربما برؤوا من الموحدين من الموحدين وأبغضوهم وعادوهم وأطالوا ألسنتهم بالطعن فيهم وفي دعوتهم... بينما لا يجد منهم أعداء الله إلاّ كل مودّة وإدهان، ومنهم من يشاركهم في مجالسهم ومهالكهم، ولا يفرِّقون بين مصلحة التوحيد العظمى التي تُفرِّق بين المسلمين والمشركين، وبين الوحدة الوطنية التي تجمع الكافرين على اختلاف توجّهاتهم وتخلط المتّقين بالفجّار، ويغفلون أو يتغافلون عن وصف الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلّم: "ومحمد فرْق بين الناس" رواه البخاري، وفي رواية: "فرَّق" ويُعرضون عن هدي الفرقان الذي فرّق بين أهل الشرك وأهل الإيمان وإن كانوا أقرب نسباً للإنسان.
 ومن الفوائد أيضاً أنّ معرفة ذلك تحدِّد طريق الدعوة الصحيحة التي يجب أن يسلكها المرء مع القوم الذين هو بين ظهرانيهم، فإنّ كونهم مسلمين يختلف عن كونهم مشركين، وكونهم مشركين وثنيِّين يختلف عن كونهم مشركين كتابيِّين، وكونهم مرتدِّين يختلف عن كونهم كافرين أصليِّين... ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمعاذ لمّا بعثه إلى اليمن، كما في الحديث المروي في الصحيحين: "إنّك تأتي قوماً من أهل الكتـاب فليكن أول ما تدعـوهم إليـه شهـادة أن لا إلـه إلاّ الله... ـ وفي رواية ـ  "إلى أن يوحِّدوا الله" فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أنّ الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة... الحديث".
فتأمل كيف عرّفه بحالهم وحكمهم، ثم ربط ذلك بطريقة الدعوة والتعامل معهم، وغير ذلك من الفوائد التي ليس هذا مقام حصرها
وختاماً فليتّق الله فينا وفي أنفسهم بعض الجهال الذين يرموننا بتكفير الناس كلهم، دون أن يسمعوا ما نقول أو يقرؤوا ما نكتب فإنهم معروضون على رب لا تخفى عليه خافية، وأقوالهم محصية في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ إحصاها وقد قال تعالى {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً عظيماً} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "من قال في مؤمن ماليس فيه أسكنه الله في ردغة الخبال(13)حتى يأتي بالمخرج مما قال" فها نحن نقولها صريحة واضحة بيِّنة: ـ لا نُكفِّر مسلماً بذنب غير مكفِّر ما لم يستحِلّه ـ ولا نكفِّر الناس كلهم بالعموم كما يرمينا ويبهتنا خصومنا وإنّما نكفِّر من هدم التوحيد أو أعان على هدمه، أو أتى بشيء من نواقضه، أو عادى أهله نصرة لأعدائه من أهل الشرك والتنديد ، ونعرف أنّ للكفر شروط وموانع، ولا نكفِّر إلاّ باستيفاء الشروط وانتفاء الموانع ونعلم أنّ المرء قد يصدر منه عمل الكفر ولا يكفر لقيام مانع من موانع التكفير.
وكل ما تكلمنا به في هذه الأوراق وغيرها إنّما هو في كفر أعداء التوحيد وعساكر الشرك والتنديد الذين مرقوا من الدين، وحاربوا أهله ونصروا الدستور الشركي والقانون الوضعي، وكفر هؤلاء أوضح عندنا من الشمس في رابعة النهار بالأدلّة الشرعية وليس بالهوى أو التقليد أو الإستحسان، فنقول لخصومنا اتّقوا الله {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} بيننا وبينكم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم لا نقبل حكماً غير ذلك آتونا منه بدليل وبرهان ينقض ما قلناه، وستجدوننا إن شاء الله تعالى أول من يرجع إليه {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.
أمّا الشقشقات الفارغة والسفسطات الجوفاء والإتهامات الباطلة التي لا يسنـدها دليل وبرهـان شرعي، ولا تنبني على الكتـاب والسنة فإنها مـردودة على صاحبـها ومن لم يقبل بالدليل الشرعي ويذعن له وينقاد،
فلا خير فيه ولا ينفع فيه تقصير أو تطويل الكلام قال تعالى {فبإي حديث بعد الله وءاياته يؤمنون}.
...ورحم الله ابن القيِّم إذ يقول في نونيّته عن الكتاب والسنة:
 من لـم يكــن يكـفيــــه ذان   فلا كفـاه الله شرَّ حوادث الأزمـان
   من لـم يكــن يشــفيـــه ذان   فلا شفـاه الله في قلب ولا أبـــدان
من لـم يكــن يـغــنيـــه ذان   رماه رب العرش بالإقلال والحرمان
   إنّ الكلام مع الكبار وليس مع   تلــك الأراذل سفـلـــة الحيـــوان
 
وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
 
 
     سجـن سـواقـة
   ربيــــــــع الأول 1416
  من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام
أبــو محمــد المقــدســي
 
 الهوامش
ـ (1) والأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا ليس هذا مقام بسطها لكن يراجع من أراد ذلك كتاب
ـ الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية ـ
ـ (2) والأمثلة على هذا كثيرة ليس هذا مقام بسطها وقد أوضحناها وبيّنّاها وأقمنا الدليل على ذلك من قوانينهم ودساتيرهم في كتابنا (كشف النقاب عن شريعة الغاب) وهو متداول
ـ (3) رواه الحاكم في مستدركه بإسناد صحيح وانظر تفسير الطبري، أما مقولة (كفر دون كفر) فلم نجزم بنسبتها لابن عباس لأن في إسنادها هشام بن حجر المكي وهو ضعيف
ـ (4) حديث البراء بن عازب قال (مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودي مُحمّم مجلود فدعاهم رسول الله فقال: "أهكذا حد الزنا في كتابكم؟" فقالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: "أُناشدك بالذي أنزل التوراة على مـوسى هكـذا تجـدون حد الزنى في كتابكم؟" فقال لا والله ولو لا أنك ناشدتني لم أخبرك، نجد حد الزنى في  كتابنا الرجم لكنه كثر في أشرافنا فكُنّا إذا زنا الشريف تركناه وإذا زنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فأجمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" فقال: فأمر به فرُجم فأنزل الله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}... الظالمون}... الفاسقون} قال البراء: (في الكفار كلها) وتأمل قوله (فأجمعنا) وليس هو: فاستحللنا، كما يُسمِّيه مرجئة العصر.
ـ * صِلَة: تابعي راوي الحديث
ـ (5) بالطبع هم لا يوردون هذه الشبهة هكذا بهذا الطول ولا يدعمونها بجميع هذه الأدلة فربما احتجّ بعضهم بحديث وبعضهم بقول وبعضهم بفهم لكنني أوردت لهم أكثر الأحاديث التي تروقهم ويظنون أنها تدعم شبهتهم من باب قول بعض السلف "أهل الأهواء يوردون ما لهم فقط وأهل السنة يروون مالهم وما عليهم".
ـ (6) نقل النووي في شرح مسلم ص219 عن بعض أهل العلم قولهم في تأويل هذه الأحاديث "هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدّى حقّها وفريضتها وهذا قول الحسن البصري. وقيل أن ذلك لمن قالها عند النّدم والتوبة ومات على ذلك وهذا هو قول البخاري". قال النووي: "هذه التأويلات إنما هي إذا حُملت الأحاديث على ظاهرها وأمّا إذا نُزِّلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بيّنه المحققون".
ـ (7) ويُبيّن ذلك ويوضحه أيضاً الحديث القدسي: "يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيك بقرابها مغفرة" رواه الترمذي.
ـ (8) فإن قيل فلماذا لم يقتله مع أنه اعترض على حكم رسول الله؟ قال شيخ الإسلام في الصارم المسلو إنما كان هذا فيما يخص النبي وكان له أن يعفو عنه كما يعفو عن كثير تأليفاً للقلوب لئلاّ يتحدث الناس محمداً يقتل أصحابه اهـ. وهناك أجوبة أخرى وفوائد غير هذا حول هذا الحديث جمعناها في رسالتنا "امتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر".
ـ (9) قد عرفت أنّ هؤلاء العساكر الذين تواطئوا مع ساداتهم على التشريع وحرسوا قوانينهم وتشريعاتهم كانوا بذلك مشركين عابدين لغير الله عزّ وجلّ قد اتّخذوا أولئك المشرِّعين أرباباً من دون الله وقد تقدّمت الأدلّة على ذلك
ـ (10) يدل على ذلك حديث الرجل الذي جاء الخبر بأنه لم يعمل خيراً قط (إلا التوحيد) فأوصى أولاده عند موته أن يحرقوه ثم يذروا رماده في البحر وقال لإن قدر الله عليّ ليعذِّبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات بعثه الله وقال له: "لِمَ فعلت هذا؟" قال: خشيتك يا رب. فغفر له.. وأصله في البخاري وزيادة "لم يعمل إلا التوحيد" مروية بإسناد صحيح عند أحمد، وفيه دلالة على العذر بالجهل في باب الأسماء والصفات، لأنّ ذلك لا يُعرف إلاّ عن طريق الرسل ولا يُعرف عن طريق الفطرة وحدها، فهذا الرجل جهل سمة قدرة الله عزّ وجلّ، وظنّ أنّ وصيّته لأولاده ستنجيه من عذاب الله فغفر له ذلك الجهل بخلاف التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والذي أقام الله عليه حجج الفطرة، وأكملها بالحجّة الرسالية، لئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل
ـ (11) أنظر على سبيل المثال (باب الإكراه) في فتح الباري شرح صحيح البخاري
ـ (12) وقد حقّقت تلك الفتوى المشار إليها وقدّمت لها بمقدمة مهمّة حول الإستحسان والإستصلاح وما أدخله أهل الأهواء على الدين من هذه الأبواب من فساد كبير وسمّيتها ـ القول النّفيس في خديعة إبليس ـ

عودة إلى الصفحة الرئيسية